الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
ومما نقمه عليه أن الكتخدا حضر لزيارة المشهد الحسيني في عصرية يوم رمضان ثم ركب متوجهًا إلى داره قبيل الغروب فصادف في طريقه عدة قصاع كبار مغطاة تحملها الرجال فسأل عنها فعرفوه أن المترجم يرسلها في كل ليلة من ليالي رمضان إلى فقراء الجامع الأزهر وبها الثريد واللحم فامتعض من ذلك وعرف الباشا أن يؤلف الناس ويتوادد إليهم بأموالك ونحو ذلك واستمر المترجم بطالًا نحو السنتين ولم يتضعضع ولم يظهر عليه تغير ونظامه ومطبخه على حاله وطعامه مبذول وراتبه جار وفي تلك المدة اشتغل بمطالعة الكتب والممارسة والمدارسة وعانى الحسابيات وصناعة التقويم حتى مهر في ذلك وعمل الدستور السنوي وما يشتمل عليه من تقويم الكواكب السيارة وتداخل التواريخ والأهلة والاجتماعات والاستقبالات وطوالع التحاويل والنصبات ويصنع بيده أيضًا الصنائع الفائقة مثل الظروف التي تأتي من بلاد الهند والإفرنج والروم ويضع فيها الكتبة محابرهم وأقلامهم فيصنعها أولًا من الخشب الرقيق والقرطاس المقوم المتلاصق ويصبغها وينقشها بأنواع الليق ويعيد على النقوشات بالسندروس المحلول ويضعها في صندوق من الزجاج صنعه لخصوص تلك الأشياء والقبورات وجفاف دهانها بحرارة الشمس المحجوب بالزجاج عن الهواء والغبار وعند تمامها تكون في غاية الحسن والظرافة والبهجة بحيث لا يشك من يراها بأنها من صناعة الهند أو الإفرنج المتقنين الصناعة وكان كلما سمع بشخص ذي معرفة لصناعة البضائع أو المعارف اجتهد في تحصيلها وتلقيها عنه بأي وجه كان ولو ببذل الرغائب وأعد بمنزله أماكن لأشخاص من أرباب المعارف ينزلهم فيها ويجري عليهم النفقات والكساوي حتى يجتني ثمار معارفهم وصنائعهم ويجتمع عنده في كل ليلة جمعة جماعة من القراء التي مساكنهم قريبة من داره فيذكر الله معهم حصة من الليل ثم يفرق فيهم دراهم ولما طال به الإهمال وفتور الأحوال والباشا قليل الإقامة بمصر وأكثر أيامه غائب عنها فحسن بباله الرحلة من مصر إلى الديار الرومية ويذهب إلى بلاده فاستأذن الباشا عند وداعه وهو متوجه إلى ناحية قبلي فأذن له وأخذ في أسباب السفر فأرسل الكتخدا إلى الباشا ودس إليه كلامًا فأرسل بمنعه ويرتب له خروجًا لمطبخه فتعوق عن السفر على غير خاطره وفي أوائل السنة حضرت إليه والدته وابنته وزوجها فأنزلهم في دار تجاه داره وأجرى عليهم ما يحتاجون إليه من النفقة فاتفق أن صهره المذكور حلف يمينًا بالطلاق الثلاث وحنث فيه ففرق بينه وبين ابنته وطرده فشكاه إلى كتخدا بك فكلمه في شأنه فلم يقبل وقال لا يجوز أن أحلل المحرم لأجلك واستمر صهره يتردد على الكتخدا ويلقي ما يلقيه في حقه من النميمة ويذكر له عنه في حقه ما يزيده غيظًا وكراهة ويقول له أنه يجمع أناسًا في كل ليلة جمعة يقرؤون ويدعون عليه وعلى مخدومك وذكر له أنه يقول لكم أن قصدت السفر إلى بلده وإنما قصده السفر إلى إسلامبول ليجتمع على مخدومه الأول لكونه تولى قبودان باشا ورياسة الدونانمة ويقول عندما أكون بدار السلطنة أفعل وأفعل وأخبرهم بحقيقة هؤلاء وأفاعيلهم وانقض عليهم أمرهم وذكر له أيضًا أنه استخرج من أحكام النجوم التي يعانيها أن الباشا يحصل له نكبة بعد مدة قريبة ويحصل ما يحصل من الفتن فيريد الخروج من مصر قبل وقوع ذلك ونحو ذلك فلما رجع الباشا من سفرته توسل المترجم بالكتخدا في أن يأخذ له إذنًا من الباشا بالسفر وهو لا يعلم سريرته ففاوض الباشا في ذلك وألقى إليه ما ألقاه حتى أوغر صدره منه ثم رد عليه بقوله إني استأذنت الباشا فلم يسهل به مفارقتك وقال أن كان عن ضيق في المعيشة فأطلق له في كل شهر كيسين عنها أربعون ألف نصف فضة فلما قال له ذلك قال: أنا لا يكفيني هذا المقدار فإن كان فيطلق لي خمسة أكياس فقال لم يرض بأزيد مما ذكرته لك وكل ذلك مخادعة من الكتخدا ليحقق ما حشده في صدر مخدومه وما زال يتردد في طلب الإذن حتى أذن له وأضمر له القتل بعد خروجه من مصر فعند ذلك باع داره وما استجده حولها والبستان خارج قناطر السباع وما زاد عن حاجته من الأشياء والأمتعة واشترى عبيدًا وجواري وقضى لوازمه وسافر إلى رشيد فعندما مضى من نزوله يومان أو ثلاثة كتبوا إلى خليل بك حاكم الإسكندرية مرسومًا بقتله فبلغه خبر ذلك وهو بثغر رشيد فلم يصدقه وقال أي ذنب استوجب به القتل ولو أراد قتلي ما الذي يمنعه منه وأنا عنده بمصر وأن سافرت بإذنه وودعته وقبلت يديه وأخذت خاطره وهو مبشوش معي كعادته فلما حصل بالإسكندرية واستقر بالسفينة ومضى أيام وهم ينتظرون اعتدال الريح والإذن من الحاكم بالإقلاع ووصل المرسوم إلى خليل بك فأرسل إليه في وقت يدعوه ليتغدى معه في رأس التين ونظر إلى خليل بك وهو واقف في انتظاره على بعد منه فوق علوة فأجاب وخرج من السفينة فوصل إليه جماعة من العسكر وأحاطوا به فتحقق عند ذلك ما كان بلغه وهو برشيد ونظر إلى خليل بك فلم يره فقال أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي ركعتين وقام من حلاوة الروح وألقى بنفسه في البحر فضربوا عليه بالرصاص وأخرجوه وتمموا قتله وأخرجوا صناديقه وأخذوا ما فيها من الكتب لأن الباشا أرسل بطلبها وأخذ ما معه من المال والدراهم خليل بك فأعطى لولده جانبًا وأذن له بالسفر مع عياله وانقضى أمره ووصلت الكتب إلى سراية الباشا وأودعت عند ولي خوجا وتبدد الكثير منها وفرق منها عدة على غير أهلها وكانت قتلته في أواخر شهر صفر من السنة والله أعلم. ثم دخلت سنة ثماني وعشرين ومائتين وألف استهل المحرم بيوم الاثنين سنة 1228 فيه وصل الخبر من الجهة القبلية بأن إبراهيم بك ابن الباشا قبض على أحمد أفندي ابن حافظ أفندي الذي بيده دفاتر الرزق الأحباسية وشنقه وضرب قاسم أفندي بن أمين الدين كاتب الشهر علقة قوية وكان والده أصحبهما معه ليباشرا معه الأمور ويعرفاه الأحوال وكان قاسم أفندي خصيصًا به مثل الوزير والصاحب والنديم ورتب له الباشا في كل سنة ثمانين كيسًا خلاف الخروج والكساوي وشرط عليه المناصحة في كشف المستورات وما يكون فيه تحصيل الأموال فكأنه قصر في كشف بعض الأشياء وأرسل إلى والده يعلمه بخيانته هو وكاتب الأرزاق وأنهما منهمكان في ملاذهما فأذن له في فعله بهما ما ذكر وأخذ ما كانا يجمعاه لأنفسهما وأظهر أنه إنما فعل ذلك بهما عقوبة على ارتكابهما المعصية. وفي عشرينه حضر إبراهيم بك المذكور إلى مصر وفيه حصلت منافسة بين حسين أفندي الروزنامجي وبين شخصين من كتابه وهما مصطفى أفندي باش جاجرت وقيطاس ولعل ذلك بإغراء باطني على حسين أفندي فرفعا أمرهما إلى الباشا وعرفاه عن مصارف وأمور يفعلها حسين أفندي ويخفيها عن الباشا وأنه إذا حوسب على السنين الماضية يطلع عليه ألوف من الأكياس فعندما سمع ذلك أمرهما بمباشرة حسابه عن أربع سنوات متقدمة فخرجا من عدنه وأخذا صحبتهما مباشرًا تركيا ونزلوا على حسين غفلة بعد العصر وتوجهوا إلى منزل أخيه عثمان أفندي السروجي ففتحوا خزانة الدفاتر وأخذوها بتمامها إلى بيت ابن الباشا إبراهيم بك الدفتردار واجتمعوا في صبحها للمحاققة والحساب مع أخيه عثمان أفندي المذكور واستمروا في المناقشة والمحاققة عدة أيام مع المرافعة والمدافعة والميل الكلي على حسين أفندي ويذهبون في كل ليلة يخبرون الباشا بما يفعلون وبالقدر الذي ظهر عليه فيعجبه ذلك ويثني عليهما ويحرضهما على التدقيق فتنتفخ أوداجهما ويزيدان في الممانعة والمدافعة والمرافعة في الحساب وحسن أفندي على جليته ويظن أنه على عادته في كونه مطلق التصرف في الأموال الميرية ويبلغها إذا سئل فيها للقائم بالدولة إيرادًا ومصرفًا ليكون إجمالًا لا تفصيلًا لكونه أمينًا وعدلًا وكان الإيراد والمصرف محررًا أو مضبوطًا في الدفاتر التي بأيدي الأفندية الكتاب ومن انضم إليهم من كتاب اليهود في دفاترهم أيضًا بالعبراني لتكون كل فرقة شاهدة وضابطة على الأخرى فلما استقل هذا الباشا بمملكة الديار المصرية واستغول في تحصيل الأموال بأي وجه واستحدث أقلام المكوس وجعلها في دفاتر تحت أيدي الأفندية وكتبة الروزنامة فصارت من جملة الأموال الميرية في قبضها وصرفها وتحاويلها والباشا مرخى العنان للروزنامجي ومرخص له في الإذن والتصرف والروزنامجي كذلك مرخي العنان لأحد خواص كتابه المعروف بأحمد اليتيم لفطانته ودرايته فكان هو المشار إليه من دون الجميع ويتطاول عليهم ويمقت من فعل فعلًا دون اطلاعه وربما سبه ولو كان كبيرًا أو أعلى منزلة منه في فنه فيمتلئ غيظًا وينقطع عن حضور الديوان فيهمله ولا يسأل عنه والأفندي الكبير الذي لا يخرج عن رأيه لكونه ساد أمسد الجميع فدبروا على أحمد أفندي المذكور وحفروا له وأغروا به حتى نكبه الباشا وصادره في ثمانين كيسًا ومخدومه حسين أفندي في أربعمائة كيس وانقطع أحمد أفندي عن حضور الديوان وتقدم المتأخر وضم الباشا إلى ديوانهم من طرفه خليل أفندي وسموه كاتب الذمة بمعنى أنه لا يكتب تحويل ولا ورقة ميرى ولا خلاف ذلك مما يسطر في ديوانهم حتى يطلع عليه خليل أفندي المذكور ويرسم عليه علامته فأحاط علمه بجميع أسرارهم وكل قليل يستخبر منه الباشا فيحيطه بمعلوماته ولم يزل حتى تحول ديوانهم وانتقل إلى بيت خليل أفندي تجاه منزل إبراهيم بك ابن الباشا بالأزبكية وترأس بالديوان قاسم أفندي كاتب الشهر وقريبه قيطاس أفندي ومصطفى أفندي باش جاجرت وبعد مدة أشهر سافر إبراهيم بك وأخذ صحبته قاسم أفندي على الصورة المتقدمة والروزنامجي وولده محمد أفندي يراعيان جانب رفيقيه ولا يتعرضان لهما فيما يتصدران له ويضمانه في عهدتهما. فلما
وصل الخبر بنكبة إبراهيم بك لقاسم أفندي فعند ذلك قصر معهما وأظهر ابن الروزنامجي مكمون غيظه في حقهما ومانعهما أيضًا وخشن القول لهما فاتفقا على إنهاء الحال إلى باب الباشا ففعلا ما ذكر وكان حسين أفندي عندما استأذن الباشا في صرف ما يتعلق بمشايخ العلم والأفندية الكتبة والسيد محمد المحروقي بالكامل وما عداهم ربع استحقاقهم وكتب له فرمانًا بذلك فقال له الروزنامجي في بعضهم من يستحق المراعاة كبعض أهل العلم الخاملين وأهل الحرمين المهاجرين ومستوطنين بمصر بعيالهم وليس لهم إيراد يتعيشون منه إلا ما هو مرتب لهم من العلائف في كل سنة وكذلك بعض الملتزمين الذين اعتادوا سداد ما عليهم من الميري وبعضه بما لهم من الإتلافات والعلائف والغلال فقال له النظر في ذلك لرأيك فإن هذا شيء يعسر ضبط جزئياته فاعتمد ذلك وطفق يفعل في البعض بالنصف والبعض بالثلث أو الثلثين وأما العامة والأرامل فيصرف لهم الربع لا غير حسب الأمر ويقاسون في تحصيل ربع استحقاقهم الشدائد من السعي وتكرار الذهاب والتسويف والرجوع في الأكثر من غير شيء مع بعد المسافة وفيهم الكثير من العواجز فلما ترافعوا في الحساب مانع المتصدر فيما زاد على الربع وطلع إلى الباشا فعرفه بذلك فقال الباشا لا تخصموا له إلا ما كان بإذني وفرماني وما كان بدون ذلك فلا وأنكر الحال السابق منه له وقال هو متبرع فيما فعله فتأخر عليه مبلغ كبير في مدة أربع سنوات وكذلك كان يحول عليه حوالات لكبار العسكر برسول من أتباعه فلا يسعه الممانعة ويدفع القدر المحول عليه بدون فرمان اتكالًا على الحلة التي هو معه عليها فرجعوا عليه في كثير من ذلك وتأخر عليه مبلغ كبير أيضًا فتتموا حساب سنة واحدة على هذا النسق فبلغت نحو الألف كيس ومائتي كيس وكسور تبلغ في الأربع سنوات خمسة آلاف كيس فتقلق حسن أفندي وتحير في أمره وزاد وسواسه ولم يجد مغيثًا ولا شافعًا ولا دافعًا. وفي أواخره عمل الباشا مهمًا لختان ابن بونابارته الخازندار الغائب ببلاد الحجاز وعملوا له زفة في يوم الجمعة بعد الصلاة اجتمع الناس للفرجة عليها. وفيه أيضًا زاد الإرجاف بحصول الطاعون وواقع الموت منه بالإسكندرية فأمر الباشا كورنتينه بثغر رشيد ودمياط والبراس وشبرا وأرسل إلى الكاشف الذي بالبحيرة بمنع المسافرين المارين من البر وأمر أيضًا بقراءة صحيح البخاري بالأزهر وكذلك يقرأون بالمساجد والزوايا سورة الملك والأحقاف في كل ليلة بنية رفع الوباء فاجتمعوا إلا قليلًا بالأزهر نحو ثلاثة أيام ثم تركوا ذلك وتكاسلوا عن الحضور. وفي يوم الاثنين تاسع عشرينه كسفت الشمس وقت الضحوة وكان المنكسف نحو ثلاثة أرباع الجرم وكانت الشمس في برج الدلو أيام الشتاء فأظلم الجو إلا قليلًا ولم ينتبه له كثير من الناس لظنهم أنها غيوم متراكمة لأنهم في فصل الشتاء. واستهل شهر صفر بيوم الأربعاء سنة 1228 فيه في أخريات النهار هبت ريح جنوبية غربية عاصفة باردة واستمرت لعصر يوم السبت وكانت قوتها يوم الجمعة أثارت غبارًا أصفر ورمالًا مع غيم مطبق وقتام ورش مطر قليل في وفي يوم الثلاثاء سابعه وردت بشائر من البلاد الحجازية باستيلاء العساكر على جدة ومكة من غير حرب وذلك أنه لما انهزمت الأتراك في العلم الماضي ورجعوا على الصورة التي رجعوا عليها مشتتين ومتفرقين وفيهم من حضر من طريق السويس ومنهم من أتى من البر ومنهم من حضر من ناحية القصير ونفى الباشا من استعجل بالهزيمة والرجوع من غير أمره ويخشى صولته ويرى في نفسه أنه أحق بالرياسة منه مثل صالح قوج وسليمان وحجو وأخرجهم من مصر واستراح منهم ثم قتل أحمد آغا لاظ جدد ترتيبًا آخر وعرفه كبراء العرب الذين استمالهم واندرجوا معه وشيخ الحويطات أن الذي حصل لهم إنما هو من العرب الموهبين وهم عرب حرب والصفراء وأنهم مجهودون والوهابية لا يعطونهم شيئًا ويقولون لهم قاتلوا عن دينكم وبلادكم فإن بذلتم لهم الأموال وأغدقتم عليهم بالأنعام والعطاء ارتدوا ورجعوا وصاروا معكم وملكوكم البلاد فاجتهد الباشا في جمع الأموال بأي وجه كان واستأنف الطلب ورتب الأمور وأشاع الخروج بنفسه ونصب العرضي خارج بالموكب كما تقدم وجلس بالصيوان وقرر للسفر في المقدمة بونابارته الخازندار وأعطاه صناديق الأموال والكساوي وأرفق معه عابدين بك ومن يصحبهما وواظب على الخروج إلى العرضي والرجوع تارة إلى القلعة وتارة إلى الأزبكية والجيزة وقصر شبرا ويعمل الرماحة والميدان في يومي الخميس والاثنين والمصاف على طرائق حرب الإفرنج وسافر بونابارته في أواخر شعبان واستمر العرضي منصوبًا والطلب كذلك مطلوبًا والعساكر واردة من بلادها على طريق الإسكندرية ودمياط ويخرج الكثير إلى العرضي ويستمرون على الدخول إلى المدينة في الصباح لقضاء أشغالهم والرجوع أخريات النهار مع تعدي أذاهم للباعة والحمارة وغيرهم ولما غدر الباشا بأحمد آغا لاظ وقتله في أواخر رمضان ولم يبق أحد ممن يخشى سطوته وسافر عابدين بك في شوال وارتحل بعده بنحو شهر مصطفى بك داني باشا وصحبته عدة وافرة من العسكر ثم سافر أيضًا يحيى آغا ومعه نحو الخمسمائة وهكذا كل قليل ترحل طائفة بعد أخرى والعرضي كما هو ميدان الرماحة وكذلك ولما وصل بونابارته إلى ينبع البر أخذوا في تأليف العربان واستمالتهم وذهب إليهم ابن شديد الحويطي ومن معه وتقابلوا مع شيخ حرب ولم يزالوا به حتى وافقهم وحضروا به إلى بونابارته فأكرمه وخلع عليه الخلع وكذلك على من حضر من أكابر العربان فألبسهم الكساوي والفراوي السمور والشالات الكشميري ففرق عليهم من الكشمير ملء أربع سحاحير وصب عليهم الأموال وأعطى لشيخ حرب مائة ألف فرانسة عين وحضر باقي المشايخ فخلع عليهم وفرق فيهم فخص شيخ حرب بمفرده ثمانية عشر ألف فرانسة ثم رتب لهم علائف تصرف لهم في كل شهر لكل شخص خمسة فرانسة وغرارة بقسماط وغرارة عدس فعند ذلك ملكوهم الأرض والذي كان متأمرًا بالمدينة من جنسهم فاستمالوه أيضًا وسلم لهم المدينة وكل ذلك بمخامرة الشريف غالب أمير مكة وتدبيره وإشارته فلما تم ذلك أظهر الشريف غالب أمره وملكهم مكة والمدينة وكان ابن مسعود الوهابي حضر في الموسم وحج ثم ارتحل إلى الطائف وبعد رحيله فعل الشريف غالب فعله وسيلقي جزاءه ولما وصلت البشائر بذلك في يوم الثلاثاء سابعه ضربوا مدافع كثيرة ونودي في صبح ذلك بزينة المدينة ومصر وبولاق فزينوا خمسة أيام أولها الأربعاء وآخرها الأحد وقاسى الناس في ليالي هذه الأيام العذاب الأليم من شدة البرد والصقيع وسهر الليل الطويل وكان ذلك في قوة فصل الشتاء وكل صاحب حانوت جالس فيها وبين يديه مجمرة نار يتدفأ ويصطلي بحرارتها وهو ملتف بالعباءة والأكسية الصوف أو اللحاف وخرج الباشا من ليلة الأربعاء المذكور ونصبت الخيام وخرجت الجمال المحملة باللوازم من الفرش والأواني وأزيار الماء والبارود لعمل الشنائك والحرائق وفي كل يوم يعمل مرماح وشنك عظيم مهول بالمدافع وبنادق الرصاص المتواصلة من غير فاصل مثل الرعود والطبول من طلوع الشمس إلى قريب الظهر وفي أول يوم من أيام الرمي أصيب إبراهيم بك ابن الباشا برصاصة في كتفه أصابت شخصًا من السواس ونفذت منه إليه وهي باردة فتعلل بسببها وخرج بعد يومين في عربة إلى العرضي ثم رجع ولما كان يوم الأحد وقت الزوال ركب الباشا وطلع إلى القلعة وقلعوا خيام الشنك وحملوا الجمال ودخلت طوائف العسكر وأذن للناس بقلع الزينة ونزول التعاليق وكان الناس قد عمروا القناديل وأشاعوا أنها سبعة أيام فلما حصل الإذن بالرفع فكأنما نشطوا من عقال وخلصوا من السجون لما قاسوه من البرد والسهر وتعطيل الأشغال وكساد الصنائع والتكليف بما لا طاقة لهم به وفيهم من لا يملك قوت عياله أو تعمير سراجه فيكلف مع ذلك هذه التكاليف وكتب الباشا بالبشائر إلى دار السلطنة وأرسلها صحبة أمين جاويش وكذلك إلى جميع النواحي وأنعم بالمناصب على خواصه. وفي هذا الشهر وردت أخبار بوقوع أمطار وثلوج كثيرة بناحية بحري وبالإسكندرية ورشيد بحدود الغربية والمنوفية والبحيرة وشدة برد ومات من ذلك أناس وبهائم والزروع البدرية وطف على وجه الماء أسماك موتى كثيرة فكان موج البحر يلقيه على الشطوط وغرق كثير من السفن من الرياح العواصف التي هبت في أول الشهر. وفي سابعه يوم وصول البشارة أحضر الباشا حسين أفندي الروزنامجي وخلع عليه خلعة الإبقاء على منصبه في الروزنامة وقرر عليه ألفين وخمسمائة كيس وذلك أنهم لما رافعوه في الحساب على الطريقة المذكورة وأرسل إليه الباشا بطلب خمسمائة كيس من أصل الحساب فضاق خناقه ولم يجد له شافعًا ولا ذا مرحمة فأرسل ولده إلى محمود بك الدويدار يستجير فيه وليكون واسطة بينه وبين الباشا وهو رجل ظاهره خلاف باطنه فذهب معه إلى الباشا فبش في وجهه ورحب به وأجلسه محمود بك في ناحية من المجلس وتناجى هو مع الباشا ورجع إليه يقول له أنه يقول أن الحساب لم يتم إلى هذا الحين وأنه ظهر على أبيك تاريخ أمس خمسة آلاف كيس وزيادة وأنا تكلمت معه وتشفعت عنده في ترك باقي الحساب والمسامحة في نصف المبلغ والكسور فيكون الباقي ألفين وخمسمائة كيس تقومون بدفعها فقال ومن أين لنا هذا القدر العظيم وقد عزلنا من المنصب أيضًا حتى كنا نتداين ولا يأمننا الناس إذا كان القدر دون هذا فرجع إلى الباشا وعاد إليه يقول له لم يمكني تضعيف القدر سوى ما سامح فيه وأما المنصب فهو عليكم وفي غد يطلع والدك ويتجدد عليه الإبقاء وينكمد الخصم وعلى الله السداد ونهض وقبل يده وتوجه فنزل إلى دارهم وأخبر والده بما حصل فزاد كربه ولم يسعه إلا التسليم وركب في صبحها وطلع إلى الباشا فخلع عليه ونزل إلى داره بقهره وشرع في بيع تعلقاته وما يتحصل لديه. وفي يوم الاثنين ثالث عشره خلع الباشا على مصطفى أفندي ونزل إلى داره وأتاه الناس يهنؤنه بالمنصب. وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه وردت بشائر بتملكهم الطائف وهروب المضايفي منها فعملوا شنكًا وضربوا مدافع كثيرة من القلعة وغيرها ثلاثة أيام في كل وقت أذان وشرع الباشا في تشهيل ولده إسمعيل باشا بالبشارة ليسافر إلى إسلامبول وتاريخ تملكها في سادس عشرين المحرم. وفي هذه الأيام ابتدعوا تحرير الموازين وعملوا لذلك ديوانًا بالقلعة وأمروا بإبطال موازين الباعة وإحضار ما عندهم من الصنج فيزنون الصنجة فإن كانت زائدة أو ناقصة أخذوها وأبقوها عندهم وإن كانت محررة الوزن ختموها بختم وأخذوا على كل ختم صنجة ثلاثة أنصاف فضة وهي النصف أوقية والأوقية إلى الرطل الذي يكون وزنه غير محور يعطونه رطلًا من حديد ويدفع ثمنه مائة نصف فضة والنصف رطل خمسون وهكذا وهو باب ينجمع منه أكياس كثيرة. وفيه أيضًا طلب الباشا من عرب الفوائد غرامة سبعين ألف فرانسة فعصوا ورمحوا بإقليم الجيزة وأخذوا المواشي وشلحوا من صادفوه ورمح كاشف الجيزة عليهم فصادف منهم أباعر محملة أمتعة لهم وصحبتهم نساء وأولاد فأخذهم ورجع بهم. وفيه سافر إبراهيم بك ابن الباشا إلى ناحية قبلي ووصلت الأخبار بوقوع الطاعون بالإسكندرية فاشتد خوف الباشا والعسكر مع قساوتهم وعسفهم وعدم مرحمتهم. واستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس سنة 1228 فيه قلدوا شخصًا يسمى حسين البرلي وهو الكتخدا عند كتخدا بك وجعلوه في منصب بيت المال وعزلوا رجب آغا وكان إنسانًا سهلًا لا بأس به فلما تولى هذا أرسل لجميع مشايخ الخطط والحارات وقيد عليهم بأنهم يخبرونه بكل من مات من ذكر أو أنثى ولو كان ذا أولاد وورثة أو غير ذلك وكذلك على حوانيت الأموات وأرسل فرمانات إلى بلاد الأرياف والبنادر بمعنى ذلك. وفي يوم الأحد رابعه طلب الباشا حسن أفندي الروزنامجي وطلب منه ما قرره عليه وكان قد باع حصصه وأملاكه وأدر مسكنه فلم يوف إلا خمسمائة كيس فقال له مالك لك توف القدر المطلوب وما هذا التأخير وأنا محتاج إلى المال فقال لم يبق عندي شيء وقد بعت التزامي وأملاكي وبيتي وتداينت من الربويين حتى وفيت خمسمائة كيس وها أنا بين يديك فقال له هذا كلام لا يروج علي ولا ينفعك بل أخرج المال المدفون فقال لم يكن عندي مال مدفون وأما الذي أخبرك عنه فيذهب فيخرجه من محله فحنق منه وسبه وقبض على لحيته ولطمه على وجهه وجرد السيف ليضربه فترجى فيه الكتخدا والحاضرون فأمر به فبطحوه وأمر القواسة الأتراك بضربه فضربوه بالعصي المفضضة التي بأيديهم بعد أن ضربه هو بيده عدة عصي وشج جبهته حتى أتوا عليه ثم أقاموه وألبسوه فروته وحملوه وهو مغشى عليه وأركبوه حمارًا وأحاط به خدمه وأتباعه حتى أوصلوه إلى منزله وأرسل معه جماعة من العسكر يلازمونه ولا يدعونه يدخل إلى حريمه ولا يصل إليهم منه أحد وركب في أثره محمود بك الدويدار بأمر الباشا وعبر داره ودار أخيه عثمان أفندي المذكور وأخذه صحبته إلى القلعة وسجنوه وأما ولده وأخواه فإنهم تغيبوا من وقت الطلب واختفوا ونزل في اليوم الثاني إبراهيم آغا أغات الباب يطالبه بغلاق ثمانمائة كيس وقتئذ فقال له وكيف أحصل شيئًا وأنا رجل ضعيف وأخي عثمان عندكم في الترسيم وهو الذي يعينني ويقضي أشغالي وأخذتم دفاتري المختصة بأحوالي مع ما أخذتموه من الدفاتر فأقام عنده إبراهيم آغا برهة ثم ركب إلى الباشا وكلمه في ذلك فأطلقه له أخاه ليسعى في التحصيل. وفي
|